هل انتهت قصة الحياة… قبل أن تبدأ؟

 حين يتجاوز الزمن في القرآن حدود الفهم البشري




تأمل معي مشاهد الحياة كما يصورها القرآن الكريم في آياته البليغة.

 يقول الله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} (الأنعام: 31)، 

وفي موضع آخر: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا} (الكهف: 49)،

 وفي آية ثالثة: {وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا} (الفجر: 22).

عند التأمل، نلاحظ أن هذه الآيات – وغيرها كثير – تتحدث عن مشاهد عظيمة وأحداث مصيرية ستقع في المستقبل، لكن الخطاب يأتي بصيغة الماضي، وكأنها وقعت وانتهت. وهنا يثور التساؤل: لماذا لا يستخدم القرآن صيغة المستقبل لأحداث لم تحدث بعد؟ لماذا لم يقل سبحانه: "سيأتي أمر الله فلا تستعجلوه" بدل قوله: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل: 1)، وهي آية يقصد بها يوم القيامة؟ أليست صيغة المستقبل أقرب لفهمنا البشري؟

الجواب أن مقاييس الزمن عند البشر تختلف عن مقاييسه في الخطاب الإلهي. نحن نصنف الأفعال إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل بحسب وقوعها بالنسبة لزمن الكلام، لكن الله عز وجل فوق الزمان والمكان، والمستقبل عنده كالماضي، كلاهما حاضر في علمه. ولأجل ذلك، يصاغ الحدث المستقبلي في القرآن بصيغة الماضي، إشارة إلى تحققه التام الذي لا يتخلف، حتى وإن لم نشهده بعد.

خذ مثلاً سورة المسد، التي أعلنت المصير النهائي لأبي لهب وزوجته وهما على قيد الحياة: {تبت يدا أبي لهب وتب... سيصلى نارًا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب}. حين نزلت السورة، ربما استغرب البعض كيف يُحسم مصير شخصين لم يموتا بعد، بل كان بوسع أبي لهب – ظاهريًا – أن يدّعي الإسلام فيكذّب ما جاء في السورة. ومع ذلك، لم يُسْلِم هو ولا زوجته، وماتا على الكفر، فكان ذلك برهانًا على أن القرآن وحي من عند الله، لا كلام بشر يتنبأ بالمستقبل.

إذن، الحديث بصيغة الماضي عن أحداث مستقبلية ليس غموضًا بل إعجاز، يربط قلب المؤمن بيقين أن ما وعد الله به واقع لا محالة، وأن الزمن في ميزان الحقيقة الإلهية لا يحده ماضٍ ولا مستقبل، بل هو مشهد كامل يراه الله من أوله إلى آخره في آن واحد.


هل نحن نعيش الماضي؟

حتى لا يتشعب بنا الحديث، لنعد إلى جوهر الموضوع: هل يعني ما ذكرناه أن جميع المخلوقات، من الإنس والجن وسائر الكائنات، تعيش في الماضي؟ هل انتهت قصة الخلق والحياة منذ بدايتها إلى نهايتها بالفعل، وأن ما نعيشه اليوم مجرد أحداث تتوالى في مشهد كفيلم طويل يعرف كاتبه نهايته مسبقًا، وسيتوقف في لحظة يقدرها الله؟

بالنسبة لنا نحن البشر، حياتنا مرتبطة بمفهوم الزمن، الذي قسمناه إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل. الماضي هو ما نتحسر على فواته، والحاضر هو اللحظة التي نحاول عيشها، والمستقبل هو ما ننتظره بقلق أو أمل. بطبيعتنا، نصدق الماضي لأنه حدث وانتهى، ونرتاب في المستقبل لأنه غيب مجهول، والمجهول دائمًا يثير في النفس رهبة وتوجسًا.

لكن هذا التقسيم الزمني لا ينطبق على علم الله عز وجل. فالخالق سبحانه لا يقيده زمان ولا يحكمه مكان، والمستقبل عنده كالماضي، كلاهما حاضر في علمه الأزلي. ولهذا نجد القرآن الكريم يذكر أحداثًا لم تقع بعد بصيغة الماضي، تأكيدًا لوقوعها الحتمي.

خذ مثلًا قوله تعالى عن واقعة كانت قريبة زمنًا من نزول القرآن: {غُلِبَتِ الرومُ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد} (الروم: 1-4). 

كان هذا خبرًا عن حدث مستقبلي قريب، وقد تحقق تمامًا كما أخبر الله، فانتصر الروم بعد سنوات قليلة، وفرح المؤمنون. وإذا كان هذا حال الأحداث القريبة، فما بالك بالبعيدة، كأحداث آخر الزمان والقيامة وما بعدها من جنة أو نار، وهي جميعًا مذكورة في القرآن بصيغة الماضي رغم أنها لم تقع بعد بالنسبة لنا.

السر هنا أن الله سبحانه قد أحاط بكل شيء علمًا منذ الأزل. خلقنا في عالم الذر، وعلم أفعالنا وأعمارنا ومصائرنا قبل أن نولد، وكتب ذلك كله في اللوح المحفوظ. فهو يرى أعمالنا من بداية حياتنا إلى نهايتها، مرورًا بالبرزخ، وانتهاء بموقفنا يوم القيامة، حيث الخلود الأبدي في الجنة أو النار.

إن صياغة الأحداث المستقبلية في القرآن بصيغة الماضي تحمل إعجازًا بليغًا. فالماضي عند الإنسان واقع لا شك فيه، بينما المستقبل مجهول قد يُرتاب فيه. وعندما يخبرنا الله عن أمر مستقبلي بصيغة الماضي، فإن ذلك يغرس في النفس يقينًا بأنه أمر واقع لا محالة، ووعد إلهي لا يتخلف.

والعبرة من ذلك أن يوقن الإنسان يقينًا تامًا بما وعد الله به، فيستعد له، ويتزود بالعمل الصالح، ليكون ختام رحلته في هذا "الفيلم الإلهي" نهاية سعيدة، كما أراد الله لعباده المؤمنين.


ألقاكم في تدوينة أخرى ممتعة ومفيدة! 😊🚀


تعليقات