جسر النداهة
في قرية بعيدة، حيث يغلف الضباب الطرقات، كان هناك جسر قديم يمتد فوق نهر راكد، عرفه الجميع باسم "جسر النداهة". لم يكن أحد يجرؤ على عبوره بعد غروب الشمس، فقد سمعوا جميعًا الحكايات عن الذين سمعوا النداء... ولم يعودوا أبدًا.
لكن يوسف، القادم حديثًا إلى القرية، لم يكن يعير الخرافات اهتمامًا. كان رجلاً عقلانيًا، لا يؤمن إلا بما تراه عيناه. عندما أخبره العجوز "الشيخ عمران" عن الجسر، ضحك باستهزاء:
"صوت امرأة تنادي العابرين؟ ما هذه السخافة؟"
حذّره الجميع، لكنه أصرّ على التحدي. كان الليل قد حلّ، والقرية غارقة في صمت مريب، حين حمل يوسف مصباحه واتجه إلى الجسر. كان الضباب كثيفًا، كأنه ستارة تفصل العالم إلى نصفين. عندما وضع قدمه الأولى على الجسر، شعر برعشة باردة تسري في جسده، لكنه تجاهلها.
في منتصف الجسر، توقف. بدا له المكان أكثر ظلمة مما توقع، وكأن الضوء لا يجرؤ على البقاء هناك. عندها، سمع الصوت.
"يوسف..."
كانت الهمسة ناعمة، مخملية، تنسل إلى أذنيه كما لو كانت آتية من داخله، لا من الخارج. التفت ببطء، ونظر إلى طرف الجسر.
كانت تقف هناك.
امرأة ترتدي ثوبًا قديمًا، شعرها مبلل يتدلّى على كتفيها، ووجهها شاحب كالقمر في ليلة بلا نجوم. عيناها كانتا واسعتين بشكل غير طبيعي، سوداويّتين كعمق النهر.
"يوسف... تعال..."
جفّ حلقه، لكنه لم يتحرك. كان عليه أن يثبت لنفسه أنها ليست سوى وهم، مجرد خدعة بصرية.
"هل تبحث عني؟" سألت بصوت رخيم، لكن فيه شيئًا غير بشري، شيئًا زحف كالثعابين على جلده.
"من أنتِ؟" سأل، محاولًا إخفاء ارتجاف صوته.
لم تجبه. ابتسمت فقط. ثم رفعت يدها وأشارت إلى المياه السوداء تحت الجسر. نظر يوسف إلى الأسفل، فشعر بدوار مفاجئ. لم يكن يرى انعكاسه، بل رأى شيئًا آخر...
كان هناك رجلٌ يشبهه تمامًا، واقفًا في المياه، ينظر إليه بعينين فارغتين.
تراجع خطوة، وقلبه يخفق بجنون. لكن المرأة اقتربت، وامتدت يدها الباردة تلامس يده. شعر وكأن عظامه تتجمد، وجسده يصبح خفيفًا كريشة في مهب الريح.
"تعال معي... ستفهم كل شيء..."
بدأت قدماه تتحرك دون إرادته. كان عقله يصرخ، يحاول أن يقاوم، لكن جسده كان مستسلماً. رأى نفسه ينحني نحو الماء، يقترب أكثر... وسمع صوت النهر يهمس، كما لو كان كيانًا حيًا ينتظره منذ زمن طويل.
"يوسف!"
جاء الصوت من خلفه، قويًا كأنه ضرب الهواء. في اللحظة الأخيرة، شعر بيد تُمسك به وتجرّه للخلف. التفت، فرأى الشيخ عمران ممسكًا به بقوة، ووجهه مليء بالذعر.
"لا تنظر إليها!" صرخ الشيخ. "اركض!"
بذل يوسف آخر ما تبقى من قوته، وانتزع نفسه من قبضة الظلام. ركض بكل ما أوتي من قوة، والشيخ خلفه، حتى وصلا إلى الطرف الآخر من الجسر.
عندما التفت، لم تكن المرأة هناك. لكن الضباب ظل كثيفًا، والمياه ظلت راكدة، وكأنها تراقبه بصمت.
"كنتُ أعلم أنك ستذهب"، قال الشيخ عمران وهو يلهث. "كل الغرباء يفعلون... لكن ليس كلهم يعودون."
في صباح اليوم التالي، غادر يوسف القرية. لم يتحدث عن تلك الليلة أبدًا، ولم يجرؤ على الاقتراب من أي جسر مهجور مرة أخرى.
لكن في الليالي الهادئة، حين يكون وحده، يسمع أحيانًا ذلك الصوت الرقيق، يناديه من العدم:
"يوسف..."
ما رأيكم في القصة؟ 🙆
ننتظر رأيكم في التعليقات 😉👊
انتظروا الجزء الثاني 😍👿👿